فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ «وَأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنِّي إِنَّمَا صِدْتُهُ لَكَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ» وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ وَقَدِ اسْتَغْرَبُوا هَذَهِ الزِّيَادَةَ وَشَكُّوا فِي كَوْنِهَا مَحْفُوظَةً، لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْجَمْعَ بِكَوْنِهِ أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَنَّهُ اصْطَادَهُ لَهُ وَامْتَنَعَ بِهِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَظْهَرُ الْجَمْعُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَوِ احْتَمَلَ تَعَدُّدَ الْوَاقِعَةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شُذُوذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارًا فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ، فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ وَأَنِّي إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ» وَاسْتَشْكَلُوهُ بِأَنَّهُ كَيْفَ جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ وَهُوَ مَعَهُمْ، وَالصَّوَابُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَجْهُهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْرِ مَخَافَةَ الْعَدْوِ، فَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِتَعْبِيرِهِ عَنْ خُرُوجِهِ وَعَدَمِ إِحْرَامِهِ هُنَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ «أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ كِلَاهُمَا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ».
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» وَلَهُ طُرُقٌ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ عِلَّةٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ.
{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فَلَا تُحِلُّوا مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ يَوْمَ تُحْشَرُونَ إِلَيْهِ، أَيْ تُجْمَعُونَ وَتُسَاقُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْحِسَابِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}.
وهذا قول دقيق يبين تحليل صيد البحر وطعامه، وتحريم صيد البر على المحرم كما حرّم الصيد في دائرة الحرم على المحرم وغير المحرم؛ لأن المسألة ليست رتابة حِلٍ، ولا رتابة حُرمة، إنما هي خروج عن مراد النفس إلى مراد الله. وصيد البحر هو ما نأخذه بالحيل ونأكله طريًا، وطعام البحر هو ما يعد ليكون طعامًا بأن نملحه ولذلك قال: {مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}. ولهذا جاء الحق بطعام البحر معطوفًا على صيد البحر. والشيء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شيء على شيء آخر، فالعطف يقتضي المغايرة.
إذن فالمقيم يأكل السمك الطري والذي في سيارة ورحلة فليأخذ السمك ويجففه ويملحه طعامًا له، مثلما فعل سيدنا موسى مع الحوت. ولكنْ هناك ألوان من الصيد ليست للأكل، كاللؤلؤ والمرجان والحيوانات التي نستخرجها من البحر لعظامها وأسنانها وخلاف ذلك، فماذا يكون الموقف؟ لقد أباح لنا سبحانه الاستمتاع بكل صيد البحر. وجاء هذا التحليل هنا بأسلوب اللف والنشر، مثلما قال الحق: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].
وكلنا يعرف أن الليل للراحة والنهار للتعب. والليل يسلم للنهار، والنهار يسلم لليل. إذن فالمسكن يعود إلى الليل، وابتغاء الفضل بالكد يعود إلى النهار. إذن فقد جاء الحكم على طريق اللف والنشر المرتب، وأوضحت من قبل كيف أن الشاعر العربي قد فعل ذلك فقال:
قلبي وجفني واللسان وخالقي ** راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ.

فالقلب راض، والجفن باكٍ، واللسان شاكر، والخالق غفور، ولكن الشاعر جاء بالأحكام منشورة بعد أن لف الكلمات الأربع الأولى. أي أنه طوى المحكوم عليه مع بعضه ثم نشر الأحكام من بعد ذلك. وفي حياتنا- في أثناء السفر- نشتري الهدايا للأبناء ونرتبها حسب ورود الأبناء إلى حياتنا، أي أننا نلف الهدايا ثم ننشرها من بعد ذلك. وبعد أن حلل الحق صيد البحر جاء بتحريم صيد البر إن كنا حُرُمًا، وذلك تأكيد جديد على تحريم صيد البر في أثناء الإحرام أو الوجود في الحرم.
ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُون} أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية؛ لأنكم لستم بقادرين على تحمل عذاب النار، فالحق- كما قلنا من قبل- له صفات جمال، وهي التي تأتي بما ييسر وينفع كالبسط، والمغفرة والرحمة، وله سبحانه وتعالى صفات القهر مثل: الجبار وشديد العقاب وغيرها. وكل صفة من صفات الحق لها مطلوب. فعندما يذنب الإنسان فالتجلي في صفات الله يكون لصفات الجلال، ومن جنود صفات الجلال النار.
إذن فإياكم أن تظنوا أنكم انفلتم من الله، فمساحة الحرية الممنوحة لكل إنسان تقع في المسافة بين قوسين: قوس الميلاد، وقوس الموت، فلا أحد يتحكم في ميلاده أو وفاته. إياك- إذن- أيها الإنسان أن تقع أسير الغرور؛ لأنك مختار فيهم بين القوسين. ومحكوم بقهرين، قهر أنه قد خلقك بدءًا، وقهر أنك ستعود إليه سبحانه وتعالى نهاية. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: «صَيْدُهُ مَا صِيدَ طَرِيًّا بِالشِّبَاكِ وَنَحْوِهَا».
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَطَعَامُهُ} فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: «مَا قَذَفَهُ مَيِّتًا».
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: «الْمَمْلُوحُ مِنْهُ».
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ إبَاحَةَ الصِّنْفَيْنِ مِمَّا صِيدَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُصَدْ، وَأَمَّا الْمَمْلُوحُ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ قوله: {صَيْدُ الْبَحْرِ}، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَطَعَامُهُ} عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكْرَارًا لِمَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الطَّافِي لِأَنَّهُ قَدْ انْتَظَمَ مَا صِيدَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُصَدْ وَالطَّافِي لَمْ يُصَدْ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا تَأَوَّلَ السَّلَفُ قَوْلَهُ: {وَطَعَامُهُ} عَلَى مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ، وَعِنْدَنَا أَنَّ مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا فَلَيْسَ بِطَافٍ وَإِنَّمَا الطَّافِي مَا يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ حَتْفَ أَنْفِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَالُوا مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ فِيهِ ثُمَّ قَذَفَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ أَرَادُوا بِهِ الطَّافِيَ.
قِيلَ لَهُ: وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ مَيِّتًا يَكُونُ طَافِيًا؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ فِي الْبَحْرِ بِسَبَبٍ طَرَأَ عَلَيْهِ فَقَتْلِهِ مِنْ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ طَافِيًا؛ وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الطَّافِي فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَطَعَامُهُ} قَالَ: مَا وَرَاءَ بَحْرِكُمْ هَذَا كُلُّهُ الْبَحْرُ وَطَعَامُهُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالْحُبُوبُ رَوَاهُ أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ الْحَسَنِ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ الْبَحْرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بُحُورَ الْمِيَاهِ وَجَعَلَهُ عَلَى مَا اتَّسَعَ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا اتَّسَعَ بَحْرًا، وَمِنْهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَرَسِ الَّذِي رَكِبَهُ لِأَبِي طَلْحَةَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا» أَيْ وَاسِعَ الْخَطْوِ.
وَقَدْ رَوَى حَبِيبٌ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَحْرِ الْأَمْصَارَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ الْبَحْرَ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ بَعْضِهِمْ عَنْ عِكْرِمَةَ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قَالَ: «الْبَرُّ الْفَيَافِيُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَالْبَحْرُ الْقُرَى».
وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَحْرُ الْمَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْبَرَّ وَلَا الْأَمْصَارَ؛ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.
وقَوْله تَعَالَى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ قَالُوا مَنْفَعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ اقْتَضَى قَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إبَاحَةَ صَيْدِ الْأَنْهَارِ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي النَّهْرَ بَحْرًا، وَمِنْهُ قَوْله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْبَحْرِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَاؤُهُ مِلْحًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا جَرَى ذِكْرُهُ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْلَةِ انْتَظَمَ الْأَنْهَارَ أَيْضًا.
وَأَيْضًا فَالْمَقْصَدُ فِيهِ صَيْدُ الْمَاءِ، فَسَائِرُ حَيَوَانِ الْمَاءِ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يَحْتَجُّ بِهِ مِنْ يُبِيحُ أَكَلَ جَمِيعِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: «لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكُ»، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيُّ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: «لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ الضُّفْدَعِ وَحَيَّةِ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ»، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ؛ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الثَّوْرِيُّ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: «وَيُذْبَحُ».
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ «صَيْدُ الْبَحْرِ كُلُّهُ حَلَالٌ»، وَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: «لَيْسَ بِمَيْتَةِ الْبَحْرِ بَأْسٌ وَكَلْبُ الْمَاءِ وَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ فَرَسُ الْمَاءِ، وَلَا يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ حِلٌّ كُلُّهُ وَأَخْذُهُ ذَكَاتُهُ، وَلَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ».
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ حَيَوَانَ الْمَاءِ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَهُوَ عَلَى جَمِيعِهِ؛ إذْ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إنَّمَا هُوَ عَلَى إبَاحَةِ اصْطِيَادِ مَا فِيهِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَكْلِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ بَيَانِ اخْتِلَافِ حُكْمِ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى الْمُحْرِمِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلِاصْطِيَادِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَصِيدِ، أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: «صِدْت صَيْدًا»؟ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْدَرًا كَانَ اسْمًا لِلِاصْطِيَادِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الصَّائِدِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصِيدِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفِعْلِ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَ جَمِيعَ حَيَوَانِ الْمَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ»، فَخَصَّ مِنْ الْمَيْتَاتِ هَذَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} هُوَ هَذَانِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ مَا عَدَاهُمَا قَدْ شَمِلَهُ عُمُومُ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي مَيْتَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُ حَصْرَهُ الْمُبَاحَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ دَلَالَةً عَلَى حَظْرِهِ مَا عَدَاه.
وَأَيْضًا لَمَّا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَيْتَاتِ دَلَّ تَفَرُّقُهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهِمَا؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ كَهُوَ فِي خِنْزِيرِ الْبَرِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ خِنْزِيرَ الْمَاءِ إنَّمَا يُسَمَّى حِمَارُ الْمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: إنْ سَمَّاهُ إنْسَانٌ حِمَارًا لَمْ يَسْلُبْهُ ذَلِكَ اسْمَ الْخِنْزِيرِ الْمَعْهُودِ لَهُ فِي اللُّغَةِ، فَيَنْتَظِمُهُ عُمُومُ التَّحْرِيمِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ يَكُونُ فِي الدَّوَاءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ» وَالضُّفْدَعُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ أَكْلُهُ جَائِزًا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ سَائِغًا لَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الضُّفْدَعِ بِالْأَثَرِ، كَانَ سَائِرُ حَيَوَانِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ بِمَثَابَتِهِ، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.